الإسلام دينٌ متكاملٌ؛ اعتنى ببناء الدّول والمؤسّسات، واعتنى ببناء الأفراد بأدقّ التّفاصيل، حتّى بسبل ترويحهم عن أنفسهم وسُبل إدخال السّعادة إلى قلوبهم، فالِّدين فُسحةٌ للناس.
ولعلَّ تساؤلاً يتبادر إلى الأذهان: لماذا الأعياد؟!
ففي ثنايا النظرة المقاصديّة للأعياد تجد أنّها تقع شُكرًا للهِ على ما أنعم به مِن أداء العبادات التي وقَّتَها، فعيد الفطر يقع شكرًا لله على إتمام صوم رمضان، وعيد الأضحى يقع شكرًا لله تعالى على العبادات الواقعة في العشر وأعظمها إقامة شعيرة الحجّ...
إذن: هي هديةٌ للعبد وجائزةٌ بعد عباداتٍ مركَّزةٍ
ولها فوائد عدّة، لأنّها مناسبات لها طابَعٌ خاص، وأنشطة مجتمعيّة معزِّزة، فالعيد يأتي ليستنهض فينا جميعًا -وإن اختلفت المشارب والأفكار- أرقى المعاني النّبيلة، والتي تتمثل في (التضحية والإيثار)، والتي أصبحت فعلاً من الفرائض الغائبة، وتمامها في معرفة أحوال مَن حولك والاطمئنان عنهم وعليهم، فكأنَّ العيد يقول لنا: دونكم ميادين التكافل الاجتماعي، ولسان حال كلّ مسلمٍ يقول: نريد عيداً يملؤه الإيمان والعطاء، لا يوجد فيه أجساد متخمة وأخرى خاوية يأكلها الجوع، لا يوجد فيه تجارٌ يحتكرون الغذاء، وفقراء لا يجدون ما يسد رمقهم.
الفرحة في العيد
تسمع في الجنبات عباراتٍ: (عيدٌ بأيّ حال عدت يا عيد؟)، (ليس هناك عيدٌ وفي البيت حزنٌ أو شهيد)، (ليس هنالك عيدٌ والأحبّة في المعتقلات أو بلدان الشتات والاغتراب)، (أي طعمٍ للعيد وبعض بلاد المسلمين وديارهم تحت يد البطش محتلةً مِن قبل الغادرين!).
هنا يأتي الهدي النّبوي ليصوّر المشهد والحلّ؛ خلاف هذه المفاهيم، فإدخال السرور على الأهل والفرح مع الأحبّة واجبٌ، وهو أوجب مع اليتيم وفي بيت المعتقل ومع كلّ مكلومٍ من أهلنا، لأنّ فرحة العيد تتجلى بتفقد حال اليتامى ومسح دموعهم، وإدخال السّرور والسّعادة إلى قلب أهل المفقودين والمصابين، عيدنا عيد مرحمةٍ، نتذكّر المعتقلين ونصل أرحامهم ونُدخل الفرحة على ذويهم، لنكون لهم أهلاً وسنداً إلى أن يمنّ الله بالحرية عليهم جميعاً، عيد التكاتف والتراحم والإيثار، عيدٌ نُعلَّم فيه العالَم كيف نفرح ونحن كالجسد الواحد، نتقاسم همّنا وقوت يومنا وسعادتنا أيضاً، من أجل أن يعمّ الفرح كل بيت.
كفانا نشراً للسلبيات، فالمجتمع يستيقظ على الابتلاءات وينام على الأحزان، فما بالنا نزيد الطين بلَّة! ليكن هدفنا جميعاً في العيد نشر السّعادة وترويح النفس، لتنطلق بهمّةٍ أعلى ونشاطٍ أكبر.
صورٌ من التّكافل الاجتماعي
أشادَ الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بفعل الأشعريين؛ واصفاً حالهم: ((إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ، جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوهُ بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ، بِالسَّوِيَّةِ، فَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ))[1].
وإنَّ تعزيز مثل هذه الصور مِن التّكافل الاجتماعي جديرٌ بأن يكون في مثل هذه المناسبات، بتفقد حال الجيران، وتقصّد توزيع الأعطيات والهدايا على أهلنا وجيراننا من العوائل المتعففة لتعزيز أواصر الود والتراحم، والمزاورة وإرسال المعايدات ولو بشكلها الافتراضي.
فلنخرج من النّمطية والتّقليد، إيّاكم أن تعيشوا أيام العيد بالرتابة، تذكّروا أمّ الشهيد، احنوا على عائلة معتقل، عودوا مريضاً، فهناك من يحيا بكلماتكم وينتظر من يُجبر خاطره ولو بجرعة أملٍ، تذكّروا زيارة المؤسسات الخدمية والأحبة المرابطين على ثغور العمل في المشافي والمراكز الأمنيّة الّتي تسهر على أمن بيوتاتكم وأهليكم.
هناك في مخيمات اللجوء عوائل كريمةٌ و ألمٌ كبيرٌ خففوه، وأدخلوا الفرح والسّرور على قلوب الصّغار، انتزعوا عن الأطفال مرارة الأيّام التي يقضون، فللعيد خصوصية بصناعة الفرحة عن طريق الأهازيج والألعاب، وحديث أمّنا عائشة -رضي الله عنها- ليس ببعيد، عندما قالت: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ مِنْ جَوَارِي الأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتِ الأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثَ، قَالَتْ: وَلَيْسَتَا بِمُغَنِّيَتَيْنِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمَزَامِيرُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ فِي يَوْمِ عِيدٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ((يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيدًا وَهَذَا عِيدُنَا))[2].
صلة الأرحام في واقع الشتات والابتلاءات العالمية
الشتات وصعوبات السّفر بسبب تحديات العصر من مشاكل صحية وغيرها ليس حجةً لترك التواصل بل العكس، فهذه رسالةٌ إنسانيةٌ تثبّت فيها قيمك ومبادئك التي تؤمن بها
حتى التّباعد الجغرافي لا يُسقط حقّ الرحم، وواجبٌ على كلّ مسلمٍ أن يهتم بالاطمئنان على أحوال أهله وأرحامه؛ ولو بشكلٍ افتراضي.
نصيحة في ميدان العلاقات الاجتماعية لا تصدّق أنّ معايدات النسخ واللصق تُسقط الواجب وتفي بالغرض، فالمعايدات ليست عبئاً على الكاهل نريد الخلاص منه، بل هو تجديد العهد بالودّ والتّراحم والعطف والإحسان، فلتكن عباراتنا سيّدة الموقف، أحبتكم يريدون سماع أصواتكم، فهي كالماء الزلازل في صيف تموز، قل ما أردت، فما خرج من القلب استقرّ في القلب.
هي فرصةٌ لترميم ما تهدّم مِن جسورٍ وتقطَّع مِن حبالٍ
الأسرة والعيد
السّعادة لا تحتاج تكلّفاً أو عظيم مال، قدّم لهم ما تقدر عليه، واصنع لهم الفرح ولو بألعابٍ بسيطة ذات صناعة محلية أو منزلية، لا تحرم الأطفال من بهجة العيد، تذكّر فيهم وصية نبيك: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ))[3].
فمفهوم الرعاية لا يقتصر على تأمين الطعام والشّراب، بل يتعداه إلى الاعتناء بالبُعد النفسي والروحي للأطفال، وهو أساس بناء شخصيّتهم المتوازنة الصالحة المصلحة؛ القادرة على الاندماج مع المجتمع بشكلٍ سليمٍ وفعّال.
لِينوا بأيدي أهليكم، واجعلوا هذا الوقت خاصاً بهم، ولتجديد العلاقات الاجتماعية اكسروا بعض القيود والقوانين في البيت؛ من إلزامية الطبخ وأساليب الحياة الخاصّة..
رسالةٌ لأهلنا في دول الاغتراب
لقد أكرم الله المسلمين بلقاء النّاس، والاختلاط بأنواعٍ شتى من الشّعوب والأعراق والأجناس، ليحققوا مفهوم التّعارف، وليكونوا رسُلاً لدينهم؛ بأخلاقهم وتعاملاتهم.
فبالرغم من تحديات الاغتراب وعذاباته حريٌّ بنا أن نستثمر هذه المحنة ونحوّلها إلى منحة!
لتجعلوا من سويعات العيد محطّةً تتعرفوا مِن خلالها على العادات والتقاليد، والتنوع بالأطعمة، وشكل المعايدات والهدايا في بلد المهجر، وتجعلوا مِن أمثال هذه المناسبات بوّابة خيرٍ، وسبيلاً لتعزيز أواصر المحبة بينكم وبين أبناء البلد المضيف.
نعم.. استثمروا العيد لمدّ جسور التّواصل مع جيرانكم، أطلقوا المبادرات المجتمعية المشتركة والتي تبني وتدعِّم جسور الودّ بين أبنائكم ومَن حولهم، وتزيل الحواجز، ويتعرف مِن خلالها كلا الطرفين على الآخر، وتحصّنكم وأهلكم مِن نار الفتنة الّتي يشعلها فاسدوا الأخلاق برسائل التّمييز العنصريّ، تبادلوا الهدايا والأعطيات، ورحّبوا بأساليب المعايدات المميزة ولقاءات السمر الهادفة، تأليفاً لقلوب مَن حولكم.
"لنكن رسلاً لديننا وقيم بلدنا، نُظهر بسلوكنا حضارة البلد التي ننتمي إليها"
ذكّروا أطفالكم بأهلهم ووطنهم، علّموهم أن يضعوا جزءً من العيديات لإخوانهم الفقراء في البلاد المتضررة (اليمن – فلسطين – العراق – سوريا...)، قولوا لهم: ما رأيكم أن تشتروا لعبةً لكم ولعبةً لطفلٍ في المخيّم لتدخلوا السرور إلى قلبه؟
ثبّت له هذا الانتماء، واجعله ملتصقاً بأصله وموطنه، عارفاً بأنّ له إخواناً بحاجةٍ إلى عونه، وبلداً تنتظره ليساهم في إعمارها وبناء نهضتها.
وفي الختام ...
لو تصافحت قلوبنا كما تتصافح الأيدي لقضينا على عوامل الفُرقة...
ولو تبسّمت أرواحنا كما تبسمت الشّفاه لكنَّا من أهل السّعادة وزال العناء...
ولو لبسنا أكمل الأخلاق كما نلبس أفخر الثّياب لكنّا أجمل أمّةٍ على الأرض...
أحبتي في الله: اهنؤوا بعيدكم، واعلموا أنّ عيدنا الحقيقي في التّمسك بالطّاعات والإقبال على الله بقلوبٍ خاشعةٍ، عيدنا الحقيقي عندما يكون الله ورسوله أحبّ إلينا مما سواهما، عيدنا الحقيقي بتحرير أراضينا المحتلّة وعودة المغتربين إلى ديارهم؛ عيدنا يوم تعود أمتنا متعافيةً سليمةً -بأولادها- وقد تحقّق فيها الأمن والاستقرار والنماء..
كلّ عامٍ وأنتم وأحبابكم وجميع المسلمين بألف خير
[1] صحيح مسلم (2500).
[2] صحيح البخاري (952).
[3] صحيح البخاريّ (2409).